إن الشعوب العربية الإسلامية،نتيجة أزماتها وفقرها وقهرها وانتكاساتها لم تعد قادرة على فتح صدرها اكثر مما ينبغي لهيمنة السلطة السلالية التقليدية(الاستبدادية/الشمولية) فباتت تتطلع الى تغييرات حاسمة في جوهر السلطة ونوعيتها ،سواء اخذ هذا التطلع منحى ديمقراطياً من قبل التيارات المعتدلة والوسطية والعقلانية أم منحى أكرا هيا وعنفياً كما هو الحال في تطلعات التيارات الإحيائية المتشددة ،محصلة هذه التطلعات والمطالبات تستدعي إلغاء الفهم التقليدي العليل لتاريخ السلطة الإسلامية وفحصها بأنظمة فكرية حديثة واليات فهم جديدة غير تلك التي كانت تُستخدم في أنظمة سر ديات العصور الوسطى،لكن المنغمسين كلياً في يقينياتهم يلغون التاريخ المحسوس ويلغون إمكانية حصول أشياء جديدة.
إن تأسيس السلطة الإسلامية يرجع بداية إلى ما قبل نشوء الدعوة الإسلامية،فقد قدمها لنا التاريخ بشكلها البدائي على هيئة قبيلة تتركز في المدن التجارية والربوية(مثل مكة)،وبحثاً عن الجذر الاجتماعي لهذه الهيئة ودورها البدائي كالة تَسلط،نجده في التمايز داخل الهيئة القبلية من جهة،وبين قبيلة وأخرى من جهة ثانية،فكان مثلا أسياد قريش يتعاضدون في حلفهم "لعقة الدم"، فإذا كان هذا الحلف يخضع في تأسيسه اقتصادياً داخل الهيئة القبلية القريشية،صاحبة الجاه والمال والنفوذ الواسع،مقابل هذا الحلف وبالتضاد معه تشكل حلف "الفضول" وكانت أهدافه كما يخبرنا ابن هشام في سيرته: "على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على ظلمه حتى ترد عليه مظلمته" ابن هشام/السيرةج1 هذا التضاد داخل القبيلة الوحدة،حلف "لعقة الدم"من جهة وحلف "الفضول" من جهة ثانية غالباً ما يطمس داخل القبيلة لصالح تناحرها مع القبائل الأخرى.
إن التسيد القريشي على المنطقة هيأها لان تكون نموذج سلطة بدائية بسببين: أحدهما،موقعها في النشاط الاقتصادي(الربوي والتجاري) كعصب أساس لهذا النشاط ومركز لتراكم المال،أما السبب الثاني،فهو نفوذها الروحي وأشرافها على الوظائف الدينية بجانب ضخامة عددها السكاني بين القبائل العربية. إن الملاحظ في ترتيب هذه الهيئة القبلية هو هر ميتها المشبخية،أي إن شيخ القبيلة يكون فيها قمة الترتيب السيادي حيث يتم اختياره على أساس السن والإمكانيات المالية،إضافة إلى مواصفات أخرى كالشجاعة ودرجة القرابة الدموية والكرم والحكمة، إلا أن السعة المالية تلعب دوراً مهماً في هذا المجال كما حدث مثلاً في تفرد عمرو بن عبد مناف(هاشم) بالزعامة وهو التاجر القريشي الكبير الذي نشط رأسماله في رحلتي قريش المشهورتين(الصيفية والشتوية) ومن هذا التفرد بالذات حدث الخلاف بين بني أمية وبني هاشم الذي سيأخذ شكلاً مأساويا من الصراعات الدينية والسياسية.
إن ما يبعدنا عن تلمس أي شكل تقليدي للدولة في هذا النمط البدائي للسلطة هو اعتماد الهيئة القبلية على أفرادها المتصلين بعضهم ببعض بروابط دم القرابة(العصبية) وهم يشكلون الدعامة الأساسية للسيادة.ماذا يمكننا أن نعاين بعد نشوء الدعوة الإسلامية بهذا الصدد؟ هل تم نقض السلطة التقليدية ،وتأسيس سلطة جديدة،بمعنى آخر هل تم كسر السلطة القبلية التقليدية وتحطيمها؟!
إن الإسلام الذي انبثق من داخل هذا المجتمع القبلي المتماسك والمغلق،استطاع أن ينقل السلطة نقلة نوعية فريدة وتاريخية ويؤسس لنموذج غير معروف سابقاً،نموذج ظهر فيه التوازن الاجتماعي وانزاح نسبياً التشكيل القبلي التقليدي،ونلمس في هذا النموذج الجديد وبصورة واضحة الشراكة الجماعية لمختلف الأجناس البشرية في قيادة زمام السلطة وهم ينتظمون بإخاء فريد تحت راية الدين التوحيدي وتحت شعار"المؤمنون اخوة"،سيكون الناس داخل هذه السلطة الشعبية متآخين على ركيزة التقوى، وما برحت الدعوة تطالب أعضاء المجتمع بأنصاف أحدهم الآخر؛تطالب بحماية الفقراء واعلاء شانهم (قالت قريش للرسول عليه الصلاة والسلام:اتباعك من هؤلاء الموالى،كبلال وعمار وصهيب، خير من قُصي بن كلاب وعبد مناف وهاشم وعبد شمس؟! فقال: " نعم، والله لئن كانوا قليلاً ليكثرنَّ،ولئن كانوا وضعاء ليشرفنَّ،حتى يصيروا نجوماً يهتدى بهم ويقتدى" ) ابن هشام/السيرة ج1 ، ما برحت الدعوة تطالب بإيقاف تعاظم الاستغلال والتراكم المالي "التكنيز"،تطالب بالمساواة بين الناس كأسنان المشط،والالتزام بتشريعات الله والامتثال بسيرة واخلاق النبي الكريم(صلى الله عليه وسلم).
إن أهم الأسباب التي تمنعنا من اعتبار السلطة في صدر الإسلام قد أخذت شكل دولة تقليدية هو غياب مؤسستين أساسيتين في تشكيلتها هما:الدواوينية والجيش الدائم،لم تكن هاتان المؤسستان متمايزتين بوضوح،فلم تزل تنظيمات السلطة وحمايتها وكذلك نشاطات الفتح الإسلامي،كل ذلك يتم عن طريق الجيوش القبائلية،الغير دائمية،والمعبأة روحياً،لم تنشا الأطر العسكرية لحد الآن بمفهومها الانضباطي الدائم،كانت الجيوش تُسرح بعد الغزو أو المعارك الداخلية ،تمنح الرواتب بعد التحصيلات الحربية(الغنائم)، قائد الجيش هو شيخ العشيرة أو أحد رجالها الشجعان وليس قائداً عسكرياً(موظفاً)،لم تكن ثمة هيكلية مدنية أو عسكرية في جهاز السلطة مفصولة عن الجهاز الديني،إلا أن ذلك لا يمنع من القول: ابتداء من بعد الفترة النبوية (أي بعد وفاة صاحب الدعوة) بدأت نواة الدولة تتشكل،إن هذه النواة ستأخذ صورتها الناضجة والواضحة في فترة عبد الملك بن مروان (72 ـ 86 هجرية) هذه الفترة ستشهد فيها الدولة الإسلامية،أول مرة تاسيساً منتظماً لمؤسستيها الأساسيتين:الدواوينية والجيش الدائم، وستضع الدولة نفسها فوق المجتمع،وتبدا بالانفصال عنه اكثر فاكثر، وستنشغل كلياً بالغنائم واحتكار العنف المشرعن، ففي خطاب نادر لاحد الأمراء العسكريين إلى جيوشه يقول متذمراً: (وان ظفرتم فغنمتم أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه،وان ظفر عدوكم كنتم انتم الأعداء البغضاء) تاريخ الأمم/الطبري ج1 .
من هذه اللحظات التاريخية بدا استخدام الدين كأيديولوجيا فعالة لتبرير السلطة وخلع المشروعية عليها،بمعنى مصادرة ذلك الخطاب النبوي التاسيسي الذي كان يتفجر كشلال من نور لاهدف له إلا فتح الروح على مطلق الله وتحريرها دون قيد ودون حدود،صودر ذلك الخطاب المنزه لاجل تمويه الناس بأحقية السلطة الإلهية واصطفائها الرباني،من هنا على الوعى الإسلامي أن ينتبه في قراءته للتاريخ ،من لحظة تماهي الدين في الدولة،أو اختطاف الدولة للدين وانفصاله عن مهامه التنزيهية وانضباطه الأخلاقي وبُعده الروحي الخلاق.
إن تأسيس السلطة الإسلامية يرجع بداية إلى ما قبل نشوء الدعوة الإسلامية،فقد قدمها لنا التاريخ بشكلها البدائي على هيئة قبيلة تتركز في المدن التجارية والربوية(مثل مكة)،وبحثاً عن الجذر الاجتماعي لهذه الهيئة ودورها البدائي كالة تَسلط،نجده في التمايز داخل الهيئة القبلية من جهة،وبين قبيلة وأخرى من جهة ثانية،فكان مثلا أسياد قريش يتعاضدون في حلفهم "لعقة الدم"، فإذا كان هذا الحلف يخضع في تأسيسه اقتصادياً داخل الهيئة القبلية القريشية،صاحبة الجاه والمال والنفوذ الواسع،مقابل هذا الحلف وبالتضاد معه تشكل حلف "الفضول" وكانت أهدافه كما يخبرنا ابن هشام في سيرته: "على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على ظلمه حتى ترد عليه مظلمته" ابن هشام/السيرةج1 هذا التضاد داخل القبيلة الوحدة،حلف "لعقة الدم"من جهة وحلف "الفضول" من جهة ثانية غالباً ما يطمس داخل القبيلة لصالح تناحرها مع القبائل الأخرى.
إن التسيد القريشي على المنطقة هيأها لان تكون نموذج سلطة بدائية بسببين: أحدهما،موقعها في النشاط الاقتصادي(الربوي والتجاري) كعصب أساس لهذا النشاط ومركز لتراكم المال،أما السبب الثاني،فهو نفوذها الروحي وأشرافها على الوظائف الدينية بجانب ضخامة عددها السكاني بين القبائل العربية. إن الملاحظ في ترتيب هذه الهيئة القبلية هو هر ميتها المشبخية،أي إن شيخ القبيلة يكون فيها قمة الترتيب السيادي حيث يتم اختياره على أساس السن والإمكانيات المالية،إضافة إلى مواصفات أخرى كالشجاعة ودرجة القرابة الدموية والكرم والحكمة، إلا أن السعة المالية تلعب دوراً مهماً في هذا المجال كما حدث مثلاً في تفرد عمرو بن عبد مناف(هاشم) بالزعامة وهو التاجر القريشي الكبير الذي نشط رأسماله في رحلتي قريش المشهورتين(الصيفية والشتوية) ومن هذا التفرد بالذات حدث الخلاف بين بني أمية وبني هاشم الذي سيأخذ شكلاً مأساويا من الصراعات الدينية والسياسية.
إن ما يبعدنا عن تلمس أي شكل تقليدي للدولة في هذا النمط البدائي للسلطة هو اعتماد الهيئة القبلية على أفرادها المتصلين بعضهم ببعض بروابط دم القرابة(العصبية) وهم يشكلون الدعامة الأساسية للسيادة.ماذا يمكننا أن نعاين بعد نشوء الدعوة الإسلامية بهذا الصدد؟ هل تم نقض السلطة التقليدية ،وتأسيس سلطة جديدة،بمعنى آخر هل تم كسر السلطة القبلية التقليدية وتحطيمها؟!
إن الإسلام الذي انبثق من داخل هذا المجتمع القبلي المتماسك والمغلق،استطاع أن ينقل السلطة نقلة نوعية فريدة وتاريخية ويؤسس لنموذج غير معروف سابقاً،نموذج ظهر فيه التوازن الاجتماعي وانزاح نسبياً التشكيل القبلي التقليدي،ونلمس في هذا النموذج الجديد وبصورة واضحة الشراكة الجماعية لمختلف الأجناس البشرية في قيادة زمام السلطة وهم ينتظمون بإخاء فريد تحت راية الدين التوحيدي وتحت شعار"المؤمنون اخوة"،سيكون الناس داخل هذه السلطة الشعبية متآخين على ركيزة التقوى، وما برحت الدعوة تطالب أعضاء المجتمع بأنصاف أحدهم الآخر؛تطالب بحماية الفقراء واعلاء شانهم (قالت قريش للرسول عليه الصلاة والسلام:اتباعك من هؤلاء الموالى،كبلال وعمار وصهيب، خير من قُصي بن كلاب وعبد مناف وهاشم وعبد شمس؟! فقال: " نعم، والله لئن كانوا قليلاً ليكثرنَّ،ولئن كانوا وضعاء ليشرفنَّ،حتى يصيروا نجوماً يهتدى بهم ويقتدى" ) ابن هشام/السيرة ج1 ، ما برحت الدعوة تطالب بإيقاف تعاظم الاستغلال والتراكم المالي "التكنيز"،تطالب بالمساواة بين الناس كأسنان المشط،والالتزام بتشريعات الله والامتثال بسيرة واخلاق النبي الكريم(صلى الله عليه وسلم).
إن أهم الأسباب التي تمنعنا من اعتبار السلطة في صدر الإسلام قد أخذت شكل دولة تقليدية هو غياب مؤسستين أساسيتين في تشكيلتها هما:الدواوينية والجيش الدائم،لم تكن هاتان المؤسستان متمايزتين بوضوح،فلم تزل تنظيمات السلطة وحمايتها وكذلك نشاطات الفتح الإسلامي،كل ذلك يتم عن طريق الجيوش القبائلية،الغير دائمية،والمعبأة روحياً،لم تنشا الأطر العسكرية لحد الآن بمفهومها الانضباطي الدائم،كانت الجيوش تُسرح بعد الغزو أو المعارك الداخلية ،تمنح الرواتب بعد التحصيلات الحربية(الغنائم)، قائد الجيش هو شيخ العشيرة أو أحد رجالها الشجعان وليس قائداً عسكرياً(موظفاً)،لم تكن ثمة هيكلية مدنية أو عسكرية في جهاز السلطة مفصولة عن الجهاز الديني،إلا أن ذلك لا يمنع من القول: ابتداء من بعد الفترة النبوية (أي بعد وفاة صاحب الدعوة) بدأت نواة الدولة تتشكل،إن هذه النواة ستأخذ صورتها الناضجة والواضحة في فترة عبد الملك بن مروان (72 ـ 86 هجرية) هذه الفترة ستشهد فيها الدولة الإسلامية،أول مرة تاسيساً منتظماً لمؤسستيها الأساسيتين:الدواوينية والجيش الدائم، وستضع الدولة نفسها فوق المجتمع،وتبدا بالانفصال عنه اكثر فاكثر، وستنشغل كلياً بالغنائم واحتكار العنف المشرعن، ففي خطاب نادر لاحد الأمراء العسكريين إلى جيوشه يقول متذمراً: (وان ظفرتم فغنمتم أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه،وان ظفر عدوكم كنتم انتم الأعداء البغضاء) تاريخ الأمم/الطبري ج1 .
من هذه اللحظات التاريخية بدا استخدام الدين كأيديولوجيا فعالة لتبرير السلطة وخلع المشروعية عليها،بمعنى مصادرة ذلك الخطاب النبوي التاسيسي الذي كان يتفجر كشلال من نور لاهدف له إلا فتح الروح على مطلق الله وتحريرها دون قيد ودون حدود،صودر ذلك الخطاب المنزه لاجل تمويه الناس بأحقية السلطة الإلهية واصطفائها الرباني،من هنا على الوعى الإسلامي أن ينتبه في قراءته للتاريخ ،من لحظة تماهي الدين في الدولة،أو اختطاف الدولة للدين وانفصاله عن مهامه التنزيهية وانضباطه الأخلاقي وبُعده الروحي الخلاق.