الأزمة الاقتصادية العالمية.. حديث الساعة، تأثيراتها امتدت حتى وصلت للفرد العادي في أقصى الشمال وأقصى الجنوب، فلم يعد بد من الاهتمام بها والوقوف على أهم أسبابها لتجنبها، والتنبيه على طرق علاجها للخروج من مأزقها.
والشريعة الإسلامية برحابتها لم تترك الإنسان هكذا يعيش في متتالية من المحرمات دون أن توجد له البديل الحلال الآمن.. بل أوجدت البدائل لكل ما حرمته، وحينما نتحدث عن اقتصاد إسلامي فنحن نتحدث عن بديل نافع أثبتت التجربة صدق الدعوة إليه.
وحوارنا مع واحد من الاقتصاديين الإسلاميين الذين طالما دافعوا عن مبادئ الاقتصاد الإسلامي.. وهو الدكتور محمد عبد الحليم عمر، الأستاذ بجامعة الأزهر، ومدير مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، وعضو المجامع الفقهية.
سألناه عن ملامح الأزمة وأسبابها، والإشكالات الفقهية التي تسببت فيها أو نجمت عنها، وأهم العمليات التجارية التي كانت سببا فيها، وكذلك عن البديل الإسلامي وقدرته على المنافسة وأخذ زمام المبادرة.. فإلى نص الحوار:
* بداية فضيلة الدكتور نرجو أن تحدد لنا ملامح الأزمة الاقتصادية التي يتعرض لها العالم الآن، مع بيان أسبابها؟
أعتقد أن ملامح الأزمة المالية الحالية تتلخص في أن المؤسسات المالية قدمت قروضًا هائلة للتمويل العقاري بلغت حوالي 11 تريليون دولار لشراء المنازل، كما قدمت مبلغًا مماثلا بصفة قروض استهلاكية بموجب بطاقات الائتمان، ثم قامت ببيع هذه القروض إلى شركات التوريق، وأعادت إقراض ما حصلته في تمويل عقاري جديد مرات متتالية.
وقامت شركات التوريق بإصدار سندات بقيمة هذه القروض وطرحتها في أسواق المال، وتم تداولها وبيعها لآخرين ومنهم إلى غيرهم في تيارات متتالية، وذلك بأسعار أكثر من قيمتها الاسمية اعتمادًا على ما تدره من فوائد والتي بدأت بسيطة لمدة سنتين ثم تتزايد بعد ذلك.
وفي المقابل قام المقترضون أصحاب المنازل بإعادة رهن العقارات بعد تقويمها بمبالغ أكثر من قيمتها الأصلية، والحصول على قروض من مؤسسات أخرى والتي بدورها باعت هذه القروض إلى شركات التوريق التي أصدرت بموجبها سندات، وطرحتها في أسواق المال والبورصات للتداول.
وفي خطوة ثالثة تم إصدار أدوات مالية (مشتقات) للمضاربة على فروق أسعار هذه السندات، وتم طرحها في الأسواق هي الأخرى، وتم تداولها منفصلة عن السندات، وبالتالي حملت المنازل بعدد كبير من القروض التي تفوق قيمة هذه المنازل، وانقطعت الصلة بين حملة السندات وبين المقترضين بضمان العقارات.
وحينما تشبع السوق العقاري، وقل الطلب انخفضت أسعار المنازل أو العقارات، وفي ظل تزايد الفوائد وعدم قدرة أصحابها على إعادة بيعها، أو رهنها والحصول على قروض جديدة توقفوا عن سداد أقساط القروض وفوائدها، وهنا بدأت أسعار السندات في الانخفاض، واتجه حملتها إلى بيعها بخسارة، وتوقفت المؤسسات المالية عن الإقراض؛ نظرًا لتعثر المقترضين السابقين، وبالتالي قل الطلب مرة أخرى على العقارات فانخفضت قيمتها.
ومن المقرر قانونًا أن المؤسسات المالية المقدمة للقروض رغم بيعها تعتبر مسئولة مع شركات التوريق عن متابعة تحصيل الأقساط والفوائد وتسليمها لحملة السندات، وبتوقف المقترضين عن السداد تركوا المنازل للمؤسسات المالية، والتي أصبحت قيمتها أقل بكثير من قيمة القروض، فضلا عن عدم إمكان هذه المؤسسات بيعها؛ للركود الحاصل في سوق العقارات، وبالتالي أصبحت هذه القروض رديئة لا يمكن تحصيلها والممولة أصلا من ودائع عملاء آخرين، فبدأ العملاء في سحب جماعي لأموالهم عجزت معه المؤسسات المالية عن مواجهة السحب فأعلنت إفلاسها، وفي المقابل انخفضت أسهمها وأسهم شركات الاستثمار العقاري التي تقدم قروضًا أيضًا فأدى ذلك إلى انهيار الأسواق المالية.
* الكثيرون يتحدثون عن أن أسباب تلك الأزمة ناجمة في الأساس عن اتباع أساليب في التعامل وممارسات في العلاقات المترتبة عليها كلها قد حرمها الإسلام.. كيف ترون ذلك؟
نعم.. كما استعرضنا من ملامح الأزمة، هناك بالطبع أساليب وممارسات حرمها الإسلام، هي التي أسهمت بصورة أساسية في تلك الأزمة، ومنها موضوع الرهن العقاري مثلا.. وصورته: أن يتم التعاقد بعقد ثلاثي الأطراف بين مالك لعقار، ومشتر وممول (بنك أو شركة تمويل عقاري)، على أن يقوم المالك ببيع العقار للمشتري بمبلغ معين، ويدفع المشتري جزءًا من الثمن (10% مثلا) ويقوم الممول في ذات العقد بدفع باقي الثمن للبائع مباشرة واعتباره قرضًا في ذمة المشتري مقابل رهن العقار للممول، ويسدد القرض على أقساط طويلة الأجل (ما بين 15 ـ 30 سنة) بفائدة تبدأ عادة بسيطة في السنتين الأوليين ثم تتزايد بعد ذلك، ويسجل العقار باسم المشتري ويصبح مالكه، له حق التصرف فيه بالبيع أو الرهن.
وكان موضوع الرهن العقاري هو السبب الرئيسي للأزمة؛ لأن البنوك أهملت في التحقق من الجدارة الائتمانية للمقترضين وأغرتهم بفائدة بسيطة في البداية، ثم تزايدت وتوسعت في منح القروض؛ مما خلق طلبًا متزايدًا على العقارات، إلى أن تشبع السوق فانخفضت أسعار العقارات وعجز المقترضون عن السداد، وكانت البنوك قد باعت هذه القروض إلى شركات التوريق التي أصدرت بها سندات وطرحتها للاكتتاب العام، وبالتالي ترتب على الرهن العقاري كم هائل من الديون مرتبط بعضها ببعض في توازن هش أدى إلى توقف المقترضين ومن ثم إلى انهيار هذا الهرم وحدثت المشكلة.
البديل الإسلامي
* وما حكم هذه المعاملة في الشريعة الإسلامية، وهل من بديل إسلامي؟
نعم هناك بديل، وهذه الصورة التي يمارس بها الرهن العقاري غير جائزة شرعا، وقد أصدرت العديد من المجامع الفقهية قرارات في هذا الأمر.
أما البديل فهو ما تتعامل بها المؤسسات المالية الإسلامية؛ حيث تقوم مؤسسة التمويل بشراء العقار وبيعه مرابحة، وكذا إبرام عقد استصناع (مقاولة) مع العميل لبناء المبنى، وتوجد صورة أخرى تطبق في المؤسسات المالية الإسلامية العاملة في أمريكا.
كما أن هناك صورة أخرى هي صورة "المشاركة التأجيرية"، بمعنى أن يشترك العميل والمؤسسة المالية في شراء العقار، ثم تؤجر المؤسسة المالية حصتها للعميل، وفي نفس الوقت تبيع له كل سنة جزءًا من حصتها، حتى ينتهي العقد بتملك العميل للعقار.
ثم إن هناك ممارسة أخرى باطلة أيضا وهي عملية إعادة بيع أو رهن العقار، فكثيرًا ما يقوم المشترون ببيع العقار المرهون أو رهنه مقابل قرض جديد بفائدة، وبالتالي يتحمل العقار الواحد بحقوق رهن متعددة، وما حدث في الأزمة أنه عند توقف المقترض عن السداد لم تكف قيمة العقار المرهون عن سداد القرضين.
وهذه المسألة باطلة شرعًا لأمرين: أولهما أنها معاملة تنطوي على قرض جديد بفائدة ربوية والربا محرم شرعًا، وثانيهما أن الفقه الإسلامي على أنه لو رهن الشخص الشيء المرهون بدين آخر غير الأول بدون إذن المرتهن لا يصح، ولو بإذن يصح الرهن الثاني، ويبطل الرهن الأول؛ لأن الرهن حق على عين ولا يجتمع حقان على عين واحدة، وكذا إذا باع الراهن الشيء المرهون يصير الثمن رهنًا لا يجوز التصرف فيه، فإذا أذن المرتهن للراهن بالبيع والتصرف في الثمن سقط حقه في الرهن، وبالتالي يكون القرض خاليًا من الرهن.
* عملية "التوريق" رقم هام في معادلة الاقتصاد العالمي وأزمته الحالية.. وتلك العملية فيها كلام كثير للشريعة الإسلامية.. فهل لكم أن تشرحوا لنا كيف تتم هذه العملية أساسا، وما دورها في تلك الأزمة، وموقف الشريعة الإسلامية منها؟
التوريق باختصار هو قيام البنوك وشركات التمويل العقاري مثلا ببيع دين القروض المتجمعة لديها على العملاء الذين اشتروا العقارات إلى إحدى الشركات المتخصصة، والتي تسمى قانونًا "شركات التوريق" وهذا البيع يكون بمقابل معجل أقل من قيمة الدين.
ثم تقوم شركة التوريق بإصدار سندات بقيمة هذه الديون بقيمة اسمية لكل سند، وتطرحها للاكتتاب العام (بيعها) للأفراد والمؤسسات بقيمة أكبر وأقل من القيمة الاسمية (أي بعلاوة أو خصم إصدار) ويحصل حملة السندات على فوائد القروض، وتتولى شركة التوريق مع شركة التمويل عملية تحصيل الأقساط والفوائد، أقصد الفوائد من المقترضين الأصليين وتوزعها على حملة السندات.
وبذلك تحصل شركة التمويل على سيولة، وتكسب شركة التوريق الفرق بين قيمة القروض وبين ما دفعته لشرائها، ويكسب حملة السندات فائدة، كما يمكنهم تداول هذه السندات في سوق المال بالبيع لغيرهم بأسعار أكثر من سعر شرائهم لها في حالة ارتفاع سعر فائدتها عن سعر الفائدة السائدة، وقد يبيعونها بخسارة عندما يقل سعر الفائدة، أو يحتاجون لسيولة عاجلة، وباستمرار تداول السندات تنتقل الملكية إلى عديدين في داخل البلاد وخارجها.
وفي المقابل فإنه عندما يقترض مشترو العقارات من مؤسسات مالية أخرى برهن نفس العقارات، تقوم هذه المؤسسات ببيع هذه القروض إلى شركة توريق التي تصدر بها سندات وتطرحها في الأسواق.
وبالتالي يصبح للعديد من الناس والمؤسسات حقوقًا على العقار، وتتزايد قيمة الأوراق المالية المصدرة عن قيمة العقارات، وإذا حدث وتحولت هذه القروض إلى قروض رديئة لتعثر مالكي العقارات عن السداد، أو تنخفض قيمة العقارات في الأسواق، فإن حملة السندات يسارعون إلى بيع ما لديهم فيزيد العرض وينخفض سعرها، وتزيد الضغوط على كل المؤسسات المالية وشركات التوريق.
وهكذا يمكن القول إن التوريق بما ينتجه من تضخم لقيمة الديون وانتشار حملة السندات الدائنين وترتيب مديونيات متعددة على نفس العقار هو حجر الزاوية في حدوث الأزمة المالية.
* إذن عملية التوريق بهذه الصورة محرمة شرعا.. أليس كذلك؟
بلى.. بل إن التوريق للديون في حد ذاته غير جائز شرعًا؛ لأن عملية التوريق تكون ببيع الدين لشركة التوريق بأقل من قيمته، وهذا يعني أن تدفع الشركة أقل وتأخذ أكثر وهو عين الربا.
أيضا لأن السندات تدر دخلا عبارة عن فوائد وهي ربا، وكذلك فعادة ما يتم تداول هذه السندات في البورصة بالأجل أو على أقساط وهو من بيع الدين بالدين المنهي عنه شرعًا.
وقد أصدرت العديد من المجامع الفقهية قرارات بهذا الشأن، وأصبح الاجتهاد في تحريمها جماعيا يقطع الطريق على أي مزايد.
* لكن اسمح لي يا دكتور.. البعض يتحدث على أن العملية ليست بيعًا لدين، ولكنها تدخل في إطار ما يسمى قانونًا "بحوالة الحق" أي أن شركة التمويل تحيل حقوقها الناشئة عن التمويل العقاري إلى شركة التوريق مقابل ما تدفعه لها، مثل الحوالة التي يحيل فيها المدين دائنه على آخر مدين له.. فما تعليقكم؟
يا سيدي، هذا قياس مع الفارق؛ لأنه يشترط في الحوالة تساوي الدينين الأصلي والمحال به، وأما في حوالة الحق من خلال عملية التوريق فإن شركة التوريق تعطي لشركة التمويل مبلغًا أقل من الدين الأصلي المشترى".
الربا محرم.. أيًّا كان
* وماذا عن الفوائد الربوية التي حرمتها الشريعة الإسلامية.. معلوم أن الاقتصاد العالمي يقوم عليها منذ بداية تكونه، لكننا نريد تحديدا أن نفهم دور تلك الفوائد في هذه الأزمة، وهل القضية الأساس في الفوائد كنظام، أم في زيادتها عن الحد المعقول أو المتعارف عليه؟
نعم.. القضية في الربا كنظام، لا في زيادته أو نقصانه، فهو على كل أحواله ربا.. وعمليات التمويل العقاري وتوابعها والتي كانت السبب الرئيسي في الأزمة المالية العالمية تقوم على الفوائد على القروض.
وبإجماع المسلمين قديمًا وحديثًا، فإن فوائد القروض ربا محرم شرعًا، والربا في الإسلام من أشد الجرائم الاقتصادية والاجتماعية؛ لمخالفة مرتكبيه لأمر الله تعالى القائل سبحانه: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، والنصوص التي تتوعد بأكثر من عقوبة كثيرة في القرآن الكريم.
فمثلا: هناك وعيد بالمحق وذهاب البركة بذهاب المال أو نفعه، يقول تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل»، وها نحن نرى أن البنوك وشركات التأمين وحملة السندات، وكل من تعامل بالربا خسر أصل ماله والفوائد.
كما أن هناك وعيدا بالحرب من الله ورسوله، يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ»، وها هي الحرب قامت في صورة إعصار مالي عالمي على جميع المؤسسات الربوية والمتعاملين معها.. وغير ذلك من الوعيد بعقوبات متنوعة مما يؤكد ردا على سؤالك أن الربا كنظام أيا كان المسمى مرفوض إسلاميا.
* هناك بعض المصطلحات التي سمع الناس بها كمفردات لهذه الأزمة، ومنها "المشتقات المالية"، ما تلك المشتقات، وما دورها باختصار في تلك الأزمة؟
المشتقات المالية هذه اختراع شيطاني؛ ذلك لأن الجشع والطمع لمزيد من الفوائد التي هي عين الربا، كانت المحرك لابتكارها، وهي حسب تعريفاتهم ليست أصولا مالية، وليست أصولا عينية، وإنما هي عقود كسائر أنواع العقود، يترتب عليها حق لطرف والتزام على الطرف الآخر.
وسأضرب لك مثالا حتى يتضح الأمر.. هناك شخص مثلا يريد أن يشتري أسهمًا أو سندات بسعر اليوم على أن يتسلمها في المستقبل ودون أن يدفع الثمن حالا، ويخشى إن انخفضت أسعارها بعد تسلمها أن يخسر فيها عند بيعها، فيتفق مع البائع على أن يعطيه حق الخيار في الرجوع عن الصفقة بمقابل لهذا الحق في الاختيار، وليكن 5 جنيهات مقابل كل سهم أو سند، ودون إلزام لمشتري حق الخيار في شراء الأسهم، ويتم إصدار ورقة مالية بقيمة حق الاختيار هذا تتداول في السوق بأسعار متغيرة، أي يبيع حق الشراء أو عدمه لشخص آخر، إن انخفضت أسعار الأسهم أكثر من 5 جنيهات يكتفي بخسارتها ويتم تصفية العملية، وإن ارتفعت أسعار الأسهم أكثر من 5 جنيهات لا يشتري ولكن يأخذ الفرق من البائع، أي أن المعاملة تدور حول حق الخيار، فكأنها مراهنة على الأسعار في المستقبل.
وهذا يتم بالنسبة للأسهم والسندات والسلع والنقود وأسعار صرفها، وأسعار الفوائد، بل وصل الأمر إلى إصدار أوراق مالية بمؤشرات البورصات أي المراهنة على انخفاض أو ارتفاع المؤشر يومًا بعد يوم.
* بالطبع سيكون بدهيا تحريم الشريعة لمثل تلك المعاملات، لكن السؤال هو: كيف كان تأثير تلك المشتقات المالية بأنواعها المختلفة على الأزمة الحالية؟
بالطبع المشتقات بهذا الشكل غير جائزة شرعًا، وقد صدرت فيها قرارات للمجامع الفقهية.
أما عن أثرها الذي سألت عنه، فيظهر فيما كان من توسع في اشتقاق أدوات مالية جديدة تعتمد على الثقة في تحقيقها مكاسب في المستقبل، ونظرًا لانهيار أسعار الأسهم والسندات الصادرة عن البنوك والشركات الاستثمارية انهارت قيمة هذه المشتقات، وحدث ذعر في الأسواق المالية نتيجة لتكالب الجميع على تصفية مراكزهم، فانخفضت مؤشرات الأسواق انخفاضًا كبيرًا أدى إلى شلل هذه الأسواق، ومن عجب أن من أهم أهداف هذه المشتقات هو مواجهة المخاطر التي يمكن أن تحدث، وأظهرت الأزمة عجزها حتى عن حماية نفسها.
* فضيلة الدكتور.. الاقتصادي الفرنسي البارز "موريس آليه" يقول: "من الممكن أن تشتري دون أن تدفع، وأن تبيع دون أن تحوز" وهذا ما حدث في تلك الأزمة.. أعني المضاربات قصيرة الأجل، أولا: ما آليات تلك المضاربات التي فاقمت الأزمة، وأين موقعها من أحكام الشريعة، وما سر تحريمها؟
بالطبع.. المضاربات قصيرة الأجل من الأساليب التي أشعلت نيران الأزمة وهي تقوم على توقعات المضاربين بتغير الأسعار في الفترات القصيرة لكسب فروق الأسعار، وزيادة حجم التعامل بإتاحة التعامل لمن لا يملك مالا أو أوراقا مالية.
وهذه المضاربات كما قلت لها آليات كثيرة منها مثلا البيع على المكشوف وهو ما يحدث مثلا حينما يتوقع شخص انخفاض سعر ورقة مالية (سهم أو سند) في المستقبل القريب، فيضارب "يقامر" على الهبوط، ويقترض من السمسار من المخزون لديه، أو يقترض السمسار له من شخص آخر عددا من هذه الأسهم، أو السندات لبيعها حالا لحسابه بالسعر المرتفع، ويظل المبلغ لدى السمسار يستثمره دون أن يدفع عنه فوائد.
وبعد مدة قصيرة إن صدق توقع المضارب وارتفع السعر يأمر السمسار بشراء بدل منها، ويسلمها للمقرض ويكسب هو الفرق بعد دفع عمولة السمسار، وإن لم يصدق توقعه وانخفضت الأسعار يكون ملزمًا بدفع مبلغ لتكملة ثمن شرائها لردها إلى صاحبها الأصل.
وهناك آليات أخرى كالشراء بالهامش، وغيرها، وكلها غير جائزة شرعا، وصدرت فيها أيضا قرارات لمجامع فقهية بعدم الجواز.
وما يؤكد أن تلك المعاملات ذات صلة وثيقة بهذه الأزمة أن المسئولين أصدروا قرارات بوقف المضاربات قصيرة الأجل لمدة 12 يومًا في أمريكا، ولمدة أربعة شهور في إنجلترا، وعلى الأخص أسلوب البيع على المكشوف؛ وذلك لقناعتهم بإسهامها في إذكاء تلك الأزمة.
انفصام حقيقي
* دكتور.. البعض يتحدث عن أن الأزمة الحقيقية في تضخم الاقتصاد المالي، وأن هناك انفصاما بينه وبين الاقتصاد الحقيقي.. ما تعليقكم؟
نعم.. هذا حقيقي.. هناك انفصام واضح بين الاثنين؛ ذلك لأن الاقتصاد في حقيقته هو النشاط الذي يدور حول توفير السلع والخدمات لإشباع الحاجات الإنسانية من خلال وظائف اقتصادية مثل الإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك، ولكن هذا يتطلب التبادل؛ لأنه لا يوجد أحد يمكنه إنتاج ما يحتاجه من سلع وخدمات بنفسه، والتبادل يحتاج إلى تمويل ومن هنا وجد الاقتصاد المالي لخدمة الاقتصاد الحقيقي.
ولكن السوق المالية انفصلت عن السوق الحقيقية، وأصبح يتم التعامل في النقود والتمويل ذاته بيعًا وشراءً من خلال المداينات والائتمان، وترتب على ذلك أن أصبح حجم التمويل المتاح من خلال الائتمان أضعاف قيمة الاقتصاد الحقيقي؛ مما أدى إلى خلل في التوازن بينهما.
ولما كان الاقتصاد المالي أصبح لا يستند إلى قاعدة من الأصول، وإنما إلى أهرامات من الديون التي ركبت بعضها فوق بعض في توازن هش، ومن أجل المزيد من كسب العوائد في صورة فوائد وفروق أسعار، لذا فإن وجود خلل في إحدى حلقات الديون المركبة كما حدث في توقف المقترضين في سوق التمويل العقاري عن سداد القروض انهار البناء المالي بكامله وحدثت الأزمة.
* لكن البعض يظن أن معنى ذلك عدم تأثر الاقتصاد الحقيقي، وهو ما لم يحدث، بل الأزمة أن الاقتصاد الحقيقي فعلا تأثر؟
لا.. ليس المقصود ذلك أبدا.. فرغم الانفصام الواقع بين الاقتصاد الحقيقي، والاقتصاد المالي فإن آثار الأزمة ستمتد إلى الاقتصاد الحقيقي؛ لأن الانهيار المالي للبنوك سيجعلها تكف عن الإقراض حتى عن الجزء الصغير الذي يوجه منها للشركات الإنتاجية، بما يجعلها تقلص إنتاجها وتطرد بعضًا من عمالها.
ومن جانب آخر، فإن الخسارة التي مني بها المواطنون جراء تعاملهم في الأسواق المالية جعلتهم يخفضون مشترياتهم من الشركات الإنتاجية وبالتالي يقع الركود الاقتصادي.
* هذا يا دكتور يقودنا للسؤال الأهم.. هل يعاني الاقتصاد الإسلامي على مستوى المبادئ من هذا الانفصام؟
أبدا.. في الاقتصاد الإسلامي مبادئ تجعل هذا الانفصام مستحيلا.. مثلا: أي تيار مالي لابد أن يقابله تيار سلعي في ربط محكم، ولا يسمح الإسلام بجني أرباح من خلال التيارات المالية وحدها، وإلا كان هذا ربا.
ولذا جاء القرض الحسن الذي يمثل تيارًا ماليًا شرع من أجل حاجة المقترضين للإنفاق على السلع والخدمات، وبدون أن يحصل المقرض على زيادة على قرضه، ومجرد التعامل في النقود ذاتها.
وهناك عبارة تراثية تنبئ عن فهم عميق لمثل تلك الأمور من فقهاء الإسلام الأول: "ويمنع من جعل النقود متجرًا فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، بل الواجب أن تكون النقود رءوس أمال يتجر بها ولا يتجر فيها".
* لمعالجة هذه الأزمة فضيلة الدكتور.. البعض تحدث عن أن محاولات الحكومات الغربية التدخل للحد من الأزمة هي محاولات غير مقبولة.. هل توافقون على ذلك؟
نعم.. فهناك بعض التصرفات تخالف المنطق، وهناك بعضها يخالف مبادئ النظام المالي الرأسمالي أصلا.
مثلا.. في البداية قامت السلطات المختصة في الولايات المتحدة الأمريكية بالموافقة على ضخ حوالي 700 مليار دولار في السوق المالية لشراء القروض الرديئة من البنوك وشركات التمويل العقاري حتى تتمكن من مواجهة سحب الودائع منها، وتبعتها في ذلك العديد من الدول الأوروبية.
وهذا الأسلوب حتى وإن كان سيسهم في حل الأزمة -مؤقتا- فإنه يعتبر مكافأة للمتسببين في الأزمة بالإهمال وسوء الإدارة لأموال المودعين، ويحمل دافعو الضرائب فاتورة ذلك.
وأيضا، فإن الحكومة سوف تدبر هذا المبلغ من خلال الاستدانة بموجب سندات حكومية تزيد من الدين العام، وعلى حساب الأعباء للأجيال القادمة وتزيد من حجم الأوراق المالية في السوق المالي المنهار هو الآخر لعدم وجود تعاملات، ومن جهة ثانية لو وفرت هذا المبلغ من خلال طبع النقود فإنها ستزيد من التضخم.
أما ما قلت بأنه مخالفة للنظام الرأسمالي نفسه، فيتضح من خلال تدخل الدولة في الاقتصاد بالتأميم والإشراف والرقابة؛ لأن ذلك ضد مبادئ الرأسمالية وخروجًا عن مقتضياتها، ويظهر عدم صلاحية النظام الرأسمالي بمبادئه الأساسية.
وعلى المستوى الإسلامي فإن تدخل الحكومات في الاقتصاد بالتأميم أمر عليه محاذير إسلامية، أما التدخل بالإشراف والرقابة فهو مطلوب، ومن واجبات الحاكم إنشاء الأجهزة الخاصة بمراقبة الأسواق، والمعاملات لضمان التحقق من الالتزام بأحكام الشريعة ومبادئ الأخلاق الإسلامية؛ مما يؤكد أن ما اتخذته السلطات بإقرار الإشراف والرقابة يقتربون به من الاقتصاد الإسلامي.
"كازينوهات المقامرين"
* على ذكر الاقتصاد الإسلامي يا دكتور.. هل ترون أن المجال الآن أوسع أمام اعتماد مبادئ الشريعة الإسلامية كأسس للاقتصاد العالمي، بمعنى أن ذلك أصبح مطلبا أثبتته التجارب وستتبناه تلك الحكومات والأنظمة رغما عنها؟
أنا لن أرد عليك بكلام من عندي، لكني أؤكد أن هذا المطلب أصبح نابعا من داخل المجتمع الرأسمالي ذاته، وهذه ليست شماتة في الرأسمالية أو تعصبًا لديننا، ولكنها كلمة حق يقول بها بعض الغربيين الآن.
منهم مثلا العالم الاقتصادي الفرنسي البارز "موريس آليه" والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1988م، والذي كتب مقالا مطولا بعنوان: "الشروط النقدية لاقتصاد الأسواق.. من دروس الأمس إلى إصلاحات الغد" سطر فيه انتقادات حادة إلى أسلوب عمل الأسواق المالية والنظام المالي الرأسمالي، وتنبأ فيه بحدوث أزمات حادة، وشبه البورصات وما يتم فيها بـ " كازينوهات للمراهقين والمقامرين".
المهم في هذا المقال القيم أن الرجل قدم مجموعة من الإصلاحات، كلها تتفق مع ما جاء به الإسلام، ولهذا فقد استضافه المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي بجدة ليلقى محاضرة ضمنها هذه الآراء وقام المعهد بترجمة ونشر المحاضرة تحت سلسلة محاضرات العلماء البارزين عام 1993م.
أيضا هناك مقال لـ "رولاند لاكسين (Roland Laskine)، رئيس تحرير صحيفة "لوجورنال دي فايننيس" Le Journal des fienance 25 / 9 / 2008م، جاء عنوان المقال: "هل حان الوقت لاعتماد مبادئ الشريعة الإسلامية في وول ستريت" يقول فيه: "إذا كان قادتنا حقًا يسعون إلى الحد من المضاربة المالية التي تسببت في الأزمة فلا شيء أكثر بساطة من تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية.
أيضا هناك "بوفيس فينست (Beaufils Vincent) رئيس تحرير مجلة تشالنجر (Challenger) كبرى الصحف الاقتصادية في أوروبا، حيث كتب مقالا افتتاحيًا للجريدة في سبتمبر 2008م على ما أذكر، بعنوان: "البابا أو القرآن" ومما جاء فيه: "أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من أحكام وتعاليم وطبقوها، ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد نقودًا".
وغير تلك الشهادات التي انطلقت من هناك وتثبت أن المجال بالفعل أصبح مفتوحا وبشدة أمام البديل الإسلامي ليتبوأ مكانه الصحيح في قيادة الاقتصاد العالمي، وهذا من إعجاز الإسلام وكتابه المحكم؛ حيث يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33
والشريعة الإسلامية برحابتها لم تترك الإنسان هكذا يعيش في متتالية من المحرمات دون أن توجد له البديل الحلال الآمن.. بل أوجدت البدائل لكل ما حرمته، وحينما نتحدث عن اقتصاد إسلامي فنحن نتحدث عن بديل نافع أثبتت التجربة صدق الدعوة إليه.
وحوارنا مع واحد من الاقتصاديين الإسلاميين الذين طالما دافعوا عن مبادئ الاقتصاد الإسلامي.. وهو الدكتور محمد عبد الحليم عمر، الأستاذ بجامعة الأزهر، ومدير مركز صالح كامل للاقتصاد الإسلامي، وعضو المجامع الفقهية.
سألناه عن ملامح الأزمة وأسبابها، والإشكالات الفقهية التي تسببت فيها أو نجمت عنها، وأهم العمليات التجارية التي كانت سببا فيها، وكذلك عن البديل الإسلامي وقدرته على المنافسة وأخذ زمام المبادرة.. فإلى نص الحوار:
* بداية فضيلة الدكتور نرجو أن تحدد لنا ملامح الأزمة الاقتصادية التي يتعرض لها العالم الآن، مع بيان أسبابها؟
أعتقد أن ملامح الأزمة المالية الحالية تتلخص في أن المؤسسات المالية قدمت قروضًا هائلة للتمويل العقاري بلغت حوالي 11 تريليون دولار لشراء المنازل، كما قدمت مبلغًا مماثلا بصفة قروض استهلاكية بموجب بطاقات الائتمان، ثم قامت ببيع هذه القروض إلى شركات التوريق، وأعادت إقراض ما حصلته في تمويل عقاري جديد مرات متتالية.
وقامت شركات التوريق بإصدار سندات بقيمة هذه القروض وطرحتها في أسواق المال، وتم تداولها وبيعها لآخرين ومنهم إلى غيرهم في تيارات متتالية، وذلك بأسعار أكثر من قيمتها الاسمية اعتمادًا على ما تدره من فوائد والتي بدأت بسيطة لمدة سنتين ثم تتزايد بعد ذلك.
وفي المقابل قام المقترضون أصحاب المنازل بإعادة رهن العقارات بعد تقويمها بمبالغ أكثر من قيمتها الأصلية، والحصول على قروض من مؤسسات أخرى والتي بدورها باعت هذه القروض إلى شركات التوريق التي أصدرت بموجبها سندات، وطرحتها في أسواق المال والبورصات للتداول.
وفي خطوة ثالثة تم إصدار أدوات مالية (مشتقات) للمضاربة على فروق أسعار هذه السندات، وتم طرحها في الأسواق هي الأخرى، وتم تداولها منفصلة عن السندات، وبالتالي حملت المنازل بعدد كبير من القروض التي تفوق قيمة هذه المنازل، وانقطعت الصلة بين حملة السندات وبين المقترضين بضمان العقارات.
وحينما تشبع السوق العقاري، وقل الطلب انخفضت أسعار المنازل أو العقارات، وفي ظل تزايد الفوائد وعدم قدرة أصحابها على إعادة بيعها، أو رهنها والحصول على قروض جديدة توقفوا عن سداد أقساط القروض وفوائدها، وهنا بدأت أسعار السندات في الانخفاض، واتجه حملتها إلى بيعها بخسارة، وتوقفت المؤسسات المالية عن الإقراض؛ نظرًا لتعثر المقترضين السابقين، وبالتالي قل الطلب مرة أخرى على العقارات فانخفضت قيمتها.
ومن المقرر قانونًا أن المؤسسات المالية المقدمة للقروض رغم بيعها تعتبر مسئولة مع شركات التوريق عن متابعة تحصيل الأقساط والفوائد وتسليمها لحملة السندات، وبتوقف المقترضين عن السداد تركوا المنازل للمؤسسات المالية، والتي أصبحت قيمتها أقل بكثير من قيمة القروض، فضلا عن عدم إمكان هذه المؤسسات بيعها؛ للركود الحاصل في سوق العقارات، وبالتالي أصبحت هذه القروض رديئة لا يمكن تحصيلها والممولة أصلا من ودائع عملاء آخرين، فبدأ العملاء في سحب جماعي لأموالهم عجزت معه المؤسسات المالية عن مواجهة السحب فأعلنت إفلاسها، وفي المقابل انخفضت أسهمها وأسهم شركات الاستثمار العقاري التي تقدم قروضًا أيضًا فأدى ذلك إلى انهيار الأسواق المالية.
* الكثيرون يتحدثون عن أن أسباب تلك الأزمة ناجمة في الأساس عن اتباع أساليب في التعامل وممارسات في العلاقات المترتبة عليها كلها قد حرمها الإسلام.. كيف ترون ذلك؟
نعم.. كما استعرضنا من ملامح الأزمة، هناك بالطبع أساليب وممارسات حرمها الإسلام، هي التي أسهمت بصورة أساسية في تلك الأزمة، ومنها موضوع الرهن العقاري مثلا.. وصورته: أن يتم التعاقد بعقد ثلاثي الأطراف بين مالك لعقار، ومشتر وممول (بنك أو شركة تمويل عقاري)، على أن يقوم المالك ببيع العقار للمشتري بمبلغ معين، ويدفع المشتري جزءًا من الثمن (10% مثلا) ويقوم الممول في ذات العقد بدفع باقي الثمن للبائع مباشرة واعتباره قرضًا في ذمة المشتري مقابل رهن العقار للممول، ويسدد القرض على أقساط طويلة الأجل (ما بين 15 ـ 30 سنة) بفائدة تبدأ عادة بسيطة في السنتين الأوليين ثم تتزايد بعد ذلك، ويسجل العقار باسم المشتري ويصبح مالكه، له حق التصرف فيه بالبيع أو الرهن.
وكان موضوع الرهن العقاري هو السبب الرئيسي للأزمة؛ لأن البنوك أهملت في التحقق من الجدارة الائتمانية للمقترضين وأغرتهم بفائدة بسيطة في البداية، ثم تزايدت وتوسعت في منح القروض؛ مما خلق طلبًا متزايدًا على العقارات، إلى أن تشبع السوق فانخفضت أسعار العقارات وعجز المقترضون عن السداد، وكانت البنوك قد باعت هذه القروض إلى شركات التوريق التي أصدرت بها سندات وطرحتها للاكتتاب العام، وبالتالي ترتب على الرهن العقاري كم هائل من الديون مرتبط بعضها ببعض في توازن هش أدى إلى توقف المقترضين ومن ثم إلى انهيار هذا الهرم وحدثت المشكلة.
البديل الإسلامي
* وما حكم هذه المعاملة في الشريعة الإسلامية، وهل من بديل إسلامي؟
نعم هناك بديل، وهذه الصورة التي يمارس بها الرهن العقاري غير جائزة شرعا، وقد أصدرت العديد من المجامع الفقهية قرارات في هذا الأمر.
أما البديل فهو ما تتعامل بها المؤسسات المالية الإسلامية؛ حيث تقوم مؤسسة التمويل بشراء العقار وبيعه مرابحة، وكذا إبرام عقد استصناع (مقاولة) مع العميل لبناء المبنى، وتوجد صورة أخرى تطبق في المؤسسات المالية الإسلامية العاملة في أمريكا.
كما أن هناك صورة أخرى هي صورة "المشاركة التأجيرية"، بمعنى أن يشترك العميل والمؤسسة المالية في شراء العقار، ثم تؤجر المؤسسة المالية حصتها للعميل، وفي نفس الوقت تبيع له كل سنة جزءًا من حصتها، حتى ينتهي العقد بتملك العميل للعقار.
ثم إن هناك ممارسة أخرى باطلة أيضا وهي عملية إعادة بيع أو رهن العقار، فكثيرًا ما يقوم المشترون ببيع العقار المرهون أو رهنه مقابل قرض جديد بفائدة، وبالتالي يتحمل العقار الواحد بحقوق رهن متعددة، وما حدث في الأزمة أنه عند توقف المقترض عن السداد لم تكف قيمة العقار المرهون عن سداد القرضين.
وهذه المسألة باطلة شرعًا لأمرين: أولهما أنها معاملة تنطوي على قرض جديد بفائدة ربوية والربا محرم شرعًا، وثانيهما أن الفقه الإسلامي على أنه لو رهن الشخص الشيء المرهون بدين آخر غير الأول بدون إذن المرتهن لا يصح، ولو بإذن يصح الرهن الثاني، ويبطل الرهن الأول؛ لأن الرهن حق على عين ولا يجتمع حقان على عين واحدة، وكذا إذا باع الراهن الشيء المرهون يصير الثمن رهنًا لا يجوز التصرف فيه، فإذا أذن المرتهن للراهن بالبيع والتصرف في الثمن سقط حقه في الرهن، وبالتالي يكون القرض خاليًا من الرهن.
* عملية "التوريق" رقم هام في معادلة الاقتصاد العالمي وأزمته الحالية.. وتلك العملية فيها كلام كثير للشريعة الإسلامية.. فهل لكم أن تشرحوا لنا كيف تتم هذه العملية أساسا، وما دورها في تلك الأزمة، وموقف الشريعة الإسلامية منها؟
التوريق باختصار هو قيام البنوك وشركات التمويل العقاري مثلا ببيع دين القروض المتجمعة لديها على العملاء الذين اشتروا العقارات إلى إحدى الشركات المتخصصة، والتي تسمى قانونًا "شركات التوريق" وهذا البيع يكون بمقابل معجل أقل من قيمة الدين.
ثم تقوم شركة التوريق بإصدار سندات بقيمة هذه الديون بقيمة اسمية لكل سند، وتطرحها للاكتتاب العام (بيعها) للأفراد والمؤسسات بقيمة أكبر وأقل من القيمة الاسمية (أي بعلاوة أو خصم إصدار) ويحصل حملة السندات على فوائد القروض، وتتولى شركة التوريق مع شركة التمويل عملية تحصيل الأقساط والفوائد، أقصد الفوائد من المقترضين الأصليين وتوزعها على حملة السندات.
وبذلك تحصل شركة التمويل على سيولة، وتكسب شركة التوريق الفرق بين قيمة القروض وبين ما دفعته لشرائها، ويكسب حملة السندات فائدة، كما يمكنهم تداول هذه السندات في سوق المال بالبيع لغيرهم بأسعار أكثر من سعر شرائهم لها في حالة ارتفاع سعر فائدتها عن سعر الفائدة السائدة، وقد يبيعونها بخسارة عندما يقل سعر الفائدة، أو يحتاجون لسيولة عاجلة، وباستمرار تداول السندات تنتقل الملكية إلى عديدين في داخل البلاد وخارجها.
وفي المقابل فإنه عندما يقترض مشترو العقارات من مؤسسات مالية أخرى برهن نفس العقارات، تقوم هذه المؤسسات ببيع هذه القروض إلى شركة توريق التي تصدر بها سندات وتطرحها في الأسواق.
وبالتالي يصبح للعديد من الناس والمؤسسات حقوقًا على العقار، وتتزايد قيمة الأوراق المالية المصدرة عن قيمة العقارات، وإذا حدث وتحولت هذه القروض إلى قروض رديئة لتعثر مالكي العقارات عن السداد، أو تنخفض قيمة العقارات في الأسواق، فإن حملة السندات يسارعون إلى بيع ما لديهم فيزيد العرض وينخفض سعرها، وتزيد الضغوط على كل المؤسسات المالية وشركات التوريق.
وهكذا يمكن القول إن التوريق بما ينتجه من تضخم لقيمة الديون وانتشار حملة السندات الدائنين وترتيب مديونيات متعددة على نفس العقار هو حجر الزاوية في حدوث الأزمة المالية.
* إذن عملية التوريق بهذه الصورة محرمة شرعا.. أليس كذلك؟
بلى.. بل إن التوريق للديون في حد ذاته غير جائز شرعًا؛ لأن عملية التوريق تكون ببيع الدين لشركة التوريق بأقل من قيمته، وهذا يعني أن تدفع الشركة أقل وتأخذ أكثر وهو عين الربا.
أيضا لأن السندات تدر دخلا عبارة عن فوائد وهي ربا، وكذلك فعادة ما يتم تداول هذه السندات في البورصة بالأجل أو على أقساط وهو من بيع الدين بالدين المنهي عنه شرعًا.
وقد أصدرت العديد من المجامع الفقهية قرارات بهذا الشأن، وأصبح الاجتهاد في تحريمها جماعيا يقطع الطريق على أي مزايد.
* لكن اسمح لي يا دكتور.. البعض يتحدث على أن العملية ليست بيعًا لدين، ولكنها تدخل في إطار ما يسمى قانونًا "بحوالة الحق" أي أن شركة التمويل تحيل حقوقها الناشئة عن التمويل العقاري إلى شركة التوريق مقابل ما تدفعه لها، مثل الحوالة التي يحيل فيها المدين دائنه على آخر مدين له.. فما تعليقكم؟
يا سيدي، هذا قياس مع الفارق؛ لأنه يشترط في الحوالة تساوي الدينين الأصلي والمحال به، وأما في حوالة الحق من خلال عملية التوريق فإن شركة التوريق تعطي لشركة التمويل مبلغًا أقل من الدين الأصلي المشترى".
الربا محرم.. أيًّا كان
* وماذا عن الفوائد الربوية التي حرمتها الشريعة الإسلامية.. معلوم أن الاقتصاد العالمي يقوم عليها منذ بداية تكونه، لكننا نريد تحديدا أن نفهم دور تلك الفوائد في هذه الأزمة، وهل القضية الأساس في الفوائد كنظام، أم في زيادتها عن الحد المعقول أو المتعارف عليه؟
نعم.. القضية في الربا كنظام، لا في زيادته أو نقصانه، فهو على كل أحواله ربا.. وعمليات التمويل العقاري وتوابعها والتي كانت السبب الرئيسي في الأزمة المالية العالمية تقوم على الفوائد على القروض.
وبإجماع المسلمين قديمًا وحديثًا، فإن فوائد القروض ربا محرم شرعًا، والربا في الإسلام من أشد الجرائم الاقتصادية والاجتماعية؛ لمخالفة مرتكبيه لأمر الله تعالى القائل سبحانه: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}، والنصوص التي تتوعد بأكثر من عقوبة كثيرة في القرآن الكريم.
فمثلا: هناك وعيد بالمحق وذهاب البركة بذهاب المال أو نفعه، يقول تعالى: {يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل»، وها نحن نرى أن البنوك وشركات التأمين وحملة السندات، وكل من تعامل بالربا خسر أصل ماله والفوائد.
كما أن هناك وعيدا بالحرب من الله ورسوله، يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ»، وها هي الحرب قامت في صورة إعصار مالي عالمي على جميع المؤسسات الربوية والمتعاملين معها.. وغير ذلك من الوعيد بعقوبات متنوعة مما يؤكد ردا على سؤالك أن الربا كنظام أيا كان المسمى مرفوض إسلاميا.
* هناك بعض المصطلحات التي سمع الناس بها كمفردات لهذه الأزمة، ومنها "المشتقات المالية"، ما تلك المشتقات، وما دورها باختصار في تلك الأزمة؟
المشتقات المالية هذه اختراع شيطاني؛ ذلك لأن الجشع والطمع لمزيد من الفوائد التي هي عين الربا، كانت المحرك لابتكارها، وهي حسب تعريفاتهم ليست أصولا مالية، وليست أصولا عينية، وإنما هي عقود كسائر أنواع العقود، يترتب عليها حق لطرف والتزام على الطرف الآخر.
وسأضرب لك مثالا حتى يتضح الأمر.. هناك شخص مثلا يريد أن يشتري أسهمًا أو سندات بسعر اليوم على أن يتسلمها في المستقبل ودون أن يدفع الثمن حالا، ويخشى إن انخفضت أسعارها بعد تسلمها أن يخسر فيها عند بيعها، فيتفق مع البائع على أن يعطيه حق الخيار في الرجوع عن الصفقة بمقابل لهذا الحق في الاختيار، وليكن 5 جنيهات مقابل كل سهم أو سند، ودون إلزام لمشتري حق الخيار في شراء الأسهم، ويتم إصدار ورقة مالية بقيمة حق الاختيار هذا تتداول في السوق بأسعار متغيرة، أي يبيع حق الشراء أو عدمه لشخص آخر، إن انخفضت أسعار الأسهم أكثر من 5 جنيهات يكتفي بخسارتها ويتم تصفية العملية، وإن ارتفعت أسعار الأسهم أكثر من 5 جنيهات لا يشتري ولكن يأخذ الفرق من البائع، أي أن المعاملة تدور حول حق الخيار، فكأنها مراهنة على الأسعار في المستقبل.
وهذا يتم بالنسبة للأسهم والسندات والسلع والنقود وأسعار صرفها، وأسعار الفوائد، بل وصل الأمر إلى إصدار أوراق مالية بمؤشرات البورصات أي المراهنة على انخفاض أو ارتفاع المؤشر يومًا بعد يوم.
* بالطبع سيكون بدهيا تحريم الشريعة لمثل تلك المعاملات، لكن السؤال هو: كيف كان تأثير تلك المشتقات المالية بأنواعها المختلفة على الأزمة الحالية؟
بالطبع المشتقات بهذا الشكل غير جائزة شرعًا، وقد صدرت فيها قرارات للمجامع الفقهية.
أما عن أثرها الذي سألت عنه، فيظهر فيما كان من توسع في اشتقاق أدوات مالية جديدة تعتمد على الثقة في تحقيقها مكاسب في المستقبل، ونظرًا لانهيار أسعار الأسهم والسندات الصادرة عن البنوك والشركات الاستثمارية انهارت قيمة هذه المشتقات، وحدث ذعر في الأسواق المالية نتيجة لتكالب الجميع على تصفية مراكزهم، فانخفضت مؤشرات الأسواق انخفاضًا كبيرًا أدى إلى شلل هذه الأسواق، ومن عجب أن من أهم أهداف هذه المشتقات هو مواجهة المخاطر التي يمكن أن تحدث، وأظهرت الأزمة عجزها حتى عن حماية نفسها.
* فضيلة الدكتور.. الاقتصادي الفرنسي البارز "موريس آليه" يقول: "من الممكن أن تشتري دون أن تدفع، وأن تبيع دون أن تحوز" وهذا ما حدث في تلك الأزمة.. أعني المضاربات قصيرة الأجل، أولا: ما آليات تلك المضاربات التي فاقمت الأزمة، وأين موقعها من أحكام الشريعة، وما سر تحريمها؟
بالطبع.. المضاربات قصيرة الأجل من الأساليب التي أشعلت نيران الأزمة وهي تقوم على توقعات المضاربين بتغير الأسعار في الفترات القصيرة لكسب فروق الأسعار، وزيادة حجم التعامل بإتاحة التعامل لمن لا يملك مالا أو أوراقا مالية.
وهذه المضاربات كما قلت لها آليات كثيرة منها مثلا البيع على المكشوف وهو ما يحدث مثلا حينما يتوقع شخص انخفاض سعر ورقة مالية (سهم أو سند) في المستقبل القريب، فيضارب "يقامر" على الهبوط، ويقترض من السمسار من المخزون لديه، أو يقترض السمسار له من شخص آخر عددا من هذه الأسهم، أو السندات لبيعها حالا لحسابه بالسعر المرتفع، ويظل المبلغ لدى السمسار يستثمره دون أن يدفع عنه فوائد.
وبعد مدة قصيرة إن صدق توقع المضارب وارتفع السعر يأمر السمسار بشراء بدل منها، ويسلمها للمقرض ويكسب هو الفرق بعد دفع عمولة السمسار، وإن لم يصدق توقعه وانخفضت الأسعار يكون ملزمًا بدفع مبلغ لتكملة ثمن شرائها لردها إلى صاحبها الأصل.
وهناك آليات أخرى كالشراء بالهامش، وغيرها، وكلها غير جائزة شرعا، وصدرت فيها أيضا قرارات لمجامع فقهية بعدم الجواز.
وما يؤكد أن تلك المعاملات ذات صلة وثيقة بهذه الأزمة أن المسئولين أصدروا قرارات بوقف المضاربات قصيرة الأجل لمدة 12 يومًا في أمريكا، ولمدة أربعة شهور في إنجلترا، وعلى الأخص أسلوب البيع على المكشوف؛ وذلك لقناعتهم بإسهامها في إذكاء تلك الأزمة.
انفصام حقيقي
* دكتور.. البعض يتحدث عن أن الأزمة الحقيقية في تضخم الاقتصاد المالي، وأن هناك انفصاما بينه وبين الاقتصاد الحقيقي.. ما تعليقكم؟
نعم.. هذا حقيقي.. هناك انفصام واضح بين الاثنين؛ ذلك لأن الاقتصاد في حقيقته هو النشاط الذي يدور حول توفير السلع والخدمات لإشباع الحاجات الإنسانية من خلال وظائف اقتصادية مثل الإنتاج، والتوزيع، والاستهلاك، ولكن هذا يتطلب التبادل؛ لأنه لا يوجد أحد يمكنه إنتاج ما يحتاجه من سلع وخدمات بنفسه، والتبادل يحتاج إلى تمويل ومن هنا وجد الاقتصاد المالي لخدمة الاقتصاد الحقيقي.
ولكن السوق المالية انفصلت عن السوق الحقيقية، وأصبح يتم التعامل في النقود والتمويل ذاته بيعًا وشراءً من خلال المداينات والائتمان، وترتب على ذلك أن أصبح حجم التمويل المتاح من خلال الائتمان أضعاف قيمة الاقتصاد الحقيقي؛ مما أدى إلى خلل في التوازن بينهما.
ولما كان الاقتصاد المالي أصبح لا يستند إلى قاعدة من الأصول، وإنما إلى أهرامات من الديون التي ركبت بعضها فوق بعض في توازن هش، ومن أجل المزيد من كسب العوائد في صورة فوائد وفروق أسعار، لذا فإن وجود خلل في إحدى حلقات الديون المركبة كما حدث في توقف المقترضين في سوق التمويل العقاري عن سداد القروض انهار البناء المالي بكامله وحدثت الأزمة.
* لكن البعض يظن أن معنى ذلك عدم تأثر الاقتصاد الحقيقي، وهو ما لم يحدث، بل الأزمة أن الاقتصاد الحقيقي فعلا تأثر؟
لا.. ليس المقصود ذلك أبدا.. فرغم الانفصام الواقع بين الاقتصاد الحقيقي، والاقتصاد المالي فإن آثار الأزمة ستمتد إلى الاقتصاد الحقيقي؛ لأن الانهيار المالي للبنوك سيجعلها تكف عن الإقراض حتى عن الجزء الصغير الذي يوجه منها للشركات الإنتاجية، بما يجعلها تقلص إنتاجها وتطرد بعضًا من عمالها.
ومن جانب آخر، فإن الخسارة التي مني بها المواطنون جراء تعاملهم في الأسواق المالية جعلتهم يخفضون مشترياتهم من الشركات الإنتاجية وبالتالي يقع الركود الاقتصادي.
* هذا يا دكتور يقودنا للسؤال الأهم.. هل يعاني الاقتصاد الإسلامي على مستوى المبادئ من هذا الانفصام؟
أبدا.. في الاقتصاد الإسلامي مبادئ تجعل هذا الانفصام مستحيلا.. مثلا: أي تيار مالي لابد أن يقابله تيار سلعي في ربط محكم، ولا يسمح الإسلام بجني أرباح من خلال التيارات المالية وحدها، وإلا كان هذا ربا.
ولذا جاء القرض الحسن الذي يمثل تيارًا ماليًا شرع من أجل حاجة المقترضين للإنفاق على السلع والخدمات، وبدون أن يحصل المقرض على زيادة على قرضه، ومجرد التعامل في النقود ذاتها.
وهناك عبارة تراثية تنبئ عن فهم عميق لمثل تلك الأمور من فقهاء الإسلام الأول: "ويمنع من جعل النقود متجرًا فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، بل الواجب أن تكون النقود رءوس أمال يتجر بها ولا يتجر فيها".
* لمعالجة هذه الأزمة فضيلة الدكتور.. البعض تحدث عن أن محاولات الحكومات الغربية التدخل للحد من الأزمة هي محاولات غير مقبولة.. هل توافقون على ذلك؟
نعم.. فهناك بعض التصرفات تخالف المنطق، وهناك بعضها يخالف مبادئ النظام المالي الرأسمالي أصلا.
مثلا.. في البداية قامت السلطات المختصة في الولايات المتحدة الأمريكية بالموافقة على ضخ حوالي 700 مليار دولار في السوق المالية لشراء القروض الرديئة من البنوك وشركات التمويل العقاري حتى تتمكن من مواجهة سحب الودائع منها، وتبعتها في ذلك العديد من الدول الأوروبية.
وهذا الأسلوب حتى وإن كان سيسهم في حل الأزمة -مؤقتا- فإنه يعتبر مكافأة للمتسببين في الأزمة بالإهمال وسوء الإدارة لأموال المودعين، ويحمل دافعو الضرائب فاتورة ذلك.
وأيضا، فإن الحكومة سوف تدبر هذا المبلغ من خلال الاستدانة بموجب سندات حكومية تزيد من الدين العام، وعلى حساب الأعباء للأجيال القادمة وتزيد من حجم الأوراق المالية في السوق المالي المنهار هو الآخر لعدم وجود تعاملات، ومن جهة ثانية لو وفرت هذا المبلغ من خلال طبع النقود فإنها ستزيد من التضخم.
أما ما قلت بأنه مخالفة للنظام الرأسمالي نفسه، فيتضح من خلال تدخل الدولة في الاقتصاد بالتأميم والإشراف والرقابة؛ لأن ذلك ضد مبادئ الرأسمالية وخروجًا عن مقتضياتها، ويظهر عدم صلاحية النظام الرأسمالي بمبادئه الأساسية.
وعلى المستوى الإسلامي فإن تدخل الحكومات في الاقتصاد بالتأميم أمر عليه محاذير إسلامية، أما التدخل بالإشراف والرقابة فهو مطلوب، ومن واجبات الحاكم إنشاء الأجهزة الخاصة بمراقبة الأسواق، والمعاملات لضمان التحقق من الالتزام بأحكام الشريعة ومبادئ الأخلاق الإسلامية؛ مما يؤكد أن ما اتخذته السلطات بإقرار الإشراف والرقابة يقتربون به من الاقتصاد الإسلامي.
"كازينوهات المقامرين"
* على ذكر الاقتصاد الإسلامي يا دكتور.. هل ترون أن المجال الآن أوسع أمام اعتماد مبادئ الشريعة الإسلامية كأسس للاقتصاد العالمي، بمعنى أن ذلك أصبح مطلبا أثبتته التجارب وستتبناه تلك الحكومات والأنظمة رغما عنها؟
أنا لن أرد عليك بكلام من عندي، لكني أؤكد أن هذا المطلب أصبح نابعا من داخل المجتمع الرأسمالي ذاته، وهذه ليست شماتة في الرأسمالية أو تعصبًا لديننا، ولكنها كلمة حق يقول بها بعض الغربيين الآن.
منهم مثلا العالم الاقتصادي الفرنسي البارز "موريس آليه" والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1988م، والذي كتب مقالا مطولا بعنوان: "الشروط النقدية لاقتصاد الأسواق.. من دروس الأمس إلى إصلاحات الغد" سطر فيه انتقادات حادة إلى أسلوب عمل الأسواق المالية والنظام المالي الرأسمالي، وتنبأ فيه بحدوث أزمات حادة، وشبه البورصات وما يتم فيها بـ " كازينوهات للمراهقين والمقامرين".
المهم في هذا المقال القيم أن الرجل قدم مجموعة من الإصلاحات، كلها تتفق مع ما جاء به الإسلام، ولهذا فقد استضافه المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي بجدة ليلقى محاضرة ضمنها هذه الآراء وقام المعهد بترجمة ونشر المحاضرة تحت سلسلة محاضرات العلماء البارزين عام 1993م.
أيضا هناك مقال لـ "رولاند لاكسين (Roland Laskine)، رئيس تحرير صحيفة "لوجورنال دي فايننيس" Le Journal des fienance 25 / 9 / 2008م، جاء عنوان المقال: "هل حان الوقت لاعتماد مبادئ الشريعة الإسلامية في وول ستريت" يقول فيه: "إذا كان قادتنا حقًا يسعون إلى الحد من المضاربة المالية التي تسببت في الأزمة فلا شيء أكثر بساطة من تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية.
أيضا هناك "بوفيس فينست (Beaufils Vincent) رئيس تحرير مجلة تشالنجر (Challenger) كبرى الصحف الاقتصادية في أوروبا، حيث كتب مقالا افتتاحيًا للجريدة في سبتمبر 2008م على ما أذكر، بعنوان: "البابا أو القرآن" ومما جاء فيه: "أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا؛ لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من أحكام وتعاليم وطبقوها، ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات، وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد نقودًا".
وغير تلك الشهادات التي انطلقت من هناك وتثبت أن المجال بالفعل أصبح مفتوحا وبشدة أمام البديل الإسلامي ليتبوأ مكانه الصحيح في قيادة الاقتصاد العالمي، وهذا من إعجاز الإسلام وكتابه المحكم؛ حيث يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33